بعد نحو 13 عاماً من الصراع الذي خلف دماراً في سوريا، ربما حان الوقت لإعادة إعمار البنية التحتية ليس فقط اقتصادياً بل بيئياً أيضاً، حيث دفعت البيئة ثمناً باهظاً طوال السنوات الماضية، وكما يصبو الجميع إلى حالة من التحول في المشهد السياسي والاجتماعي، يجب ألا ننسى المشهد البيئي السوري.
الواقع البيئي بين أزمة المناخ والتلوث
بين مطرقة أزمة المناخ وسندان التلوث الناتج عن سنوات الصراع، تواجه سوريا واقعاً بيئياً يحتاج إلى الكثير من الجهد، مع ملاحظة أن كلا العاملين السابقين يفاقم تأثير الآخر، على سبيل المثال، اختفى ربع الغطاء الحرجي (مساحة الأرض التي تغطيها الغابات) في سوريا منذ عام 2010، حسب تقرير صادر عن "مؤسسة باكس للسلام"، وهي منظمة هولندية غير حكومية، ونشرته مجلة "التايم".
ومن المؤكد أن حرائق الغابات من أسباب هذه الخسارة الجسيمة، لكن أزمة المناخ لا تتحمل مسئولية زيادة اندلاع الحرائق منفردة، بل القضية ترتبط بشكل كبير بسنوات الصراع وحملات القصف التي استهدفت الغابات عمداً، وزيادة الاحتطاب نتيجة حاجة الناس إلى التدفئة بعد انقطاع الكهرباء والخدمات الأساسية عن المدن والقرى.
التلوث البيئي
دفعت سنوات الحرب الطويلة الظروف البيئية الي التدهور بشكل كبير داخل سوريا، وأضرت بجودة عناصر الحياة، وزادت نسبة الانبعاثات الكربونية، ووصلت سوريا إلى مستويات مرتفعة في معدلات التلوث، الذي بات يحاصر البلاد جواً وأرضاً، من تلوث الهواء مروراً بتلوث الماء وصولاً إلى تلوث التربة، وتحول التلوث إلى أحد أكثر المشاكل خطورة في البلاد.
تلوث الهواء
عانت سوريا من مستويات عالية من تلوث الهواء، وفي بعض المناطق كان من السهل رؤية أعمدة الأدخنة الخانقة تغطي سماءها جراء المعارك، واستخدام الأسلحة والملوثات الكيميائية وحرق الآبار النفطية.
وفي عام 2019، جاءت سوريا في المرتبة الـ18 بين أكثر الدول تلوثاً في العالم، وفق مؤشر "IQAir" المختص بقياس جودة الهواء، حيث وصل المتوسط السنوي لتركيزات التلوث بالجسيمات الدقيقة (PM2.5) إلى 32.2، أي ما يعادل 3 أضعاف متوسط التركيز الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية.
وتشير منظمة الصحة العالمية إلى خطورة تلوث الهواء الذي يشكل خطراً على الإنسان، حيث يتسبب في خسائر كبيرة بالأرواح وتدهور الصحة العامة، كما يمثل تلوث الهواء عامل الخطر الرئيس في خُمس حالات الوفاة الناجمة عن السكتة الدماغية وأمراض القلب، بالإضافة إلى تدمير النظم البيئية.
وعند مراجعة مؤشر "IQAir"، يمكن ملاحظة انخفاض تركيز الجسيمات الدقيقة (PM2.5) في الهواء داخل بعض المناطق السورية خلال شهر يناير الجاري، حيث وصل في المتوسط إلى 18.4 داخل جزيرة أرواد في محافظة طرطوس على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ورغم الانخفاض ما زال أعلى من متوسط التركيز الموصى به من منظمة الصحة العالمية.
تلوث المياه وأزمة الجفاف
واجهت سوريا مجموعة من التحديات البيئية حتى قبل سنوات الصراع منها ندرة المياه، إذ كانت موارد المياه تتعرض لضغوط كبيرة لعدة أسباب منها التغير المناخي والزيادة السكانية ما ساهم في الضغط على مخزون المياه السطحية واستنزاف المياه الجوفية، كما أدى الصراع إلى مضاعفة صعوبة الوصول إلى المياه الصالحة للشرب وحرمان السوريين من الماء النظيف والآمن.
وحسب بيانات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، قبل عام 2010، كان 98% من سكان المدن و92% في المجتمعات الريفية يستطيعون الحصول على المياه الصالحة للشرب بطرق موثوقة، لكن بعد مرور 10 سنوات لا يعمل سوى 50% من أنظمة المياه والصرف الصحي بشكل صحيح داخل البلاد.
وتعرضت بعض محطات معالجة مياه الصرف إلى التدمير، وبالتالي تسربت مياه الصرف إلى البيئة المحيطة، ما أدى إلى تلوث مصادر المياه الجوفية بشكل خطير، وتحولت القرى إلى أرض خصبة للأمراض والتلوث.
ومع انخفاض إمدادات المياه الطبيعية، اعتمد السوريون بشكل أساسي على الآبار والتي تلوثت بمياه الصرف الصحي، ما عرض الملايين لمخاطر صحية جسيمة منها الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا، والتي عانت منها سوريا عام 2022 وتسببت في وفاة 100 شخص، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ونتيجة ظروف النزاع والظروف الاقتصادية القاسية، اعتمد الناس على نقل المياه بالشاحنات، وبعض هذه المياه تأتي من مصادر غير آمنة مثل مياه الأنهار الملوثة بتسرب نفطي، حيث تتسرب كميات هائلة من النفط الخام من الآبار ومرافق التخزين إلى الأنهار والمياه الجوفية، الأمر الذي أدى إلى تراجع الإنتاج السمكي بنسبة كبيرة.
ومنذ عام 2021 تفاقمت أزمة نقص المياه بسبب تغير المناخ والاحترار العالمي، حيث تشير توقعات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، إلى أن سوريا تعاني من جفاف شديد وطويل الأمد حتى أصبح تأمين المياه أحد أبرز التحديات الإنسانية في سوريا وخاصة في السنوات الأخيرة.
تسمم التربة
كانت الأرض هي مسرح الأحداث لصراع دام 13 عاماً، وبالتالي تحولت إلى أراضٍ قاحلة ومسمومة تحمل بين أحشائها تربة ممزوجة بالمعادن الثقيلة كالزئبق والرصاص والزرنيخ، والوقود والمذيبات والمواد النشطة التي تطلقها الأسلحة والمتفجرات.
وتضررت التربة الزراعية بشكل مباشر، نتيجة القصف وانتشار الألغام والانفجارات الناتجة عن الهجمات الصاروخية، بجانب استهداف القوى المتصارعة حقول النفط والمصافي، مما أدى إلى تسربات نفطية وكميات كبيرة من النفايات الصلبة والمعادن، التي زحفت أيضاً على التربة.
ومع موجات الجفاف ونقص المياه، اضطر العديد من المزارعين إلى الاعتماد على مياه الصرف الصحي الملوثة لري محاصيلهم، وجراء التلوث وتدهور الأراضي ارتفع معدل تآكل التربة وفقدان الأراضي الخصبة، وبالطبع تفاقمت خسائر المحاصيل الزراعية، وارتفع سعر سلة الغذاء الأسبوعية للأسرة السورية المتوسطة بنسبة 230%، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
وأوضح تقرير "مؤسسة باكس للسلام"، كيف أدت العوامل البيئية مع الصراع إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في سوريا، فبعد سنوات من الجفاف، كان من المتوقع أن تجلب الأمطار الغزيرة حصاداً وفيراً خلال صيف 2019.
وعلى العكس، نشرت الفيضانات المياه الملوثة بالنفط فوق حقول القمح، كما أدت إلى تسريع نمو الأعشاب التي تغذي نيران الحرائق، وكانت النتيجة كارثية مع خسارة حوالي 20 ألف فدان من القمح والشعير بسبب الحرائق والتلوث في جميع أنحاء سوريا، وفقاً للأرقام التي أصدرتها الحكومة حينها.
الإعمار المستدام
الإرث الذي خلفته أعوام طويلة من الصراع في سوريا، وتمخضت عنه خسائر فادحة تتعدى الأنقاض المدمرة، يحتاج الى استغلال فرصة إعادة الإعمار من أجل وضع الاستدامة كبوصلة، ترسم مسار التنمية المستدامة في سوريا.
مع اعتماد التخطيط الجيد والعمارة الصديقة للبيئة وإدارة النفايات الصلبة، والبحث عن وسائل آمنة لتأمين الطاقة النظيفة مثل الطاقة المتجددة والكهرومائية، وتعزيز الممارسات الزراعية المرنة، واستغلال التكنولوجيا لرسم خرائط التغيرات البيئية، ومعالجة التلوث المتفشي، لأن التعافي الأخضر هو جزء من الازدهار والتنمية حتى تعود "أرض الياسمين" فيحاء كما كانت منذ قديم الأزل.