أولمبياد باريس على صفيح "بيئي" ساخن.. تحديات الاحترار والتلوث والسكان الأصليين


مروة بدوي
الخميس 25 يوليو 2024 | 03:56 مساءً
أوليمبياد باريس
أوليمبياد باريس

مع اقتراب حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، التي من المقرر إقامتها بين 26 يوليو و11 أغسطس المقبل، تزداد المخاوف العالمية وتتعقد السيناريوهات المتوقعة للنسخة القادمة من الأولمبياد، من التهديدات الأمنية المحتملة والاضطرابات السياسية التي تعيشها باريس بعد الانتخابات البرلمانية، بجانب الخوف من انتشار الفوضى مع استقبال ملايين الزائرين إلى مدينة النور أثناء فعاليات الأولمبياد التي تتزامن مع موسم الذروة السياحي.

وسط هذه الأجواء، تأتي أزمة المناخ، وتفرض سؤالاً جوهرياً: هل تستطيع فرنسا قيادة "سفينة الأولمبياد الصيفية" والوصول بها الى بر الأمان، في مواجهة ثلاثة من الأخطار البيئية والأخلاقية؟

التلوث

المعضلة الأولى هي نهر السين الذي ما زال يثير الجدل بشأن جودة مياهه قبل افتتاح الأوليمبياد.

يُعتبَر "السين" من معالم مدينة النور الشهيرة؛ لذلك يُخطِّط مُنظِّمو أولمبياد 2024 لإقامة الافتتاح على ضفاف النهر، وهي المرة الأولى التي يشهد فيها تاريخ الألعاب الأولمبية الصيفية حفل افتتاح مفتوحاً في قلب المدينة وخارج أسوار الملاعب التقليدية؛ ما يتيح للجمهور حرية الحضور.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

في موكب من القوارب يحمل جميع الوفود الرياضية أثناء حفل الافتتاح، سوف يُعلَن عن عودة السباحة في نهر السين، بعد حظرها نحو قرن من الزمن؛ ما يُمثِّل لحظة مهمة في تاريخ العاصمة الفرنسية، لكن هذه الخطط الأولمبية مرهونة بجودة مياه النهر وانخفاض معدلات التلوث.

الحالة البيئية لنهر السين

منذ نهاية القرن الـ19، يعاني النهر من ارتفاع نسبة التلوث وانهيار المخزون السمكي وقلة مستويات الأكسجين، لكن ذلك لم يمنع رسَّامي باريس من الالتفاف حول النهر لرسم أشهر لوحاتهم حتى تحوَّل النهر إلى أحد أكثر الأنهار رومانسيةً في العالم.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

ورغم الرومانسية في الحقيقة يُعتبَر النهر ميتاً من الناحية البيئية منذ منتصف القرن العشرين بسبب تصريف نحو نصف مياه الصرف الصحي الباريسية مجرى النهر دون معالجتها.

ومن أجل تنظيم دورة الألعاب الأولمبية، اتخذت السلطات الفرنسية مجموعة من الإجراءات لتعزيز جودة المياه؛ منها جمع مياه الصرف الصحي أثناء هطول الأمطار الغزيرة بهدف تقليل التلوث؛ لأن إحدى المشاكل الرئيسية تتمثل في أن هطول الأمطار يُرهِق نظام الصرف الصحي الذي يعود إلى القرن الـ19؛ ما يؤدي إلى تسرب المطر مع مياه الصرف إلى النهر.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

وأظهرت بيانات النهر على مدى الأشهر السابقة أنه لا يزال ملوثاً، ولا يمكن السباحة فيه نتيجة ارتفاع مستويات البكتيريا المعوية عن الحدود المسموح بها عالمياً؛ ما يهدد صحة اللاعبين، لكن مؤخراً أعلنت فرنسا عن تحسُّن تركيزات البكتيريا ووصولها إلى الحد المقبول بسبب الطقس الجاف وقلة هطول الأمطار.

يتمنَّى الجميع عودة الحياة إلى نهر السين؛ شريان الحياة الباريسية، لكن إذا استمر تلوث النهر فسوف يتسبب ذلك في تغيير خطط الأولمبياد في اللحظات الأخيرة، وسوف يضطر منظمو الألعاب إلى نقل مسابقات السباحة إلى خارج العاصمة الفرنسية للحفاظ على صحة السباحين.

الاحترار

باتت ألعاب طوكيو 2021 تُعرَف بأنها "الأولمبياد الأكثر حرارةً في التاريخ"؛ حيث تجاوزت درجات الحرارة 34 درجة مئوية؛ ما أدى إلى مخاطر صحية شديدة على الرياضيين؛ لذلك تعود قضية الاحترار وأضرارها السلبية إلى السطح من جديد قبل أولمبياد باريس بسبب موجات الحر القياسية، التي تثير المخاوف حول مصير اللاعبين في هذه الظروف الخطيرة.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

تقرير "حلقات النار"

حذر أحدث تقرير صادر عن جامعة "بورتسموث" البريطانية من أن الحرارة الشديدة في دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 قد تؤدي إلى انهيار الرياضيين، وفي أسوأ السيناريوهات إلى الوفاة.

وذكر التقرير المُعنوَن بـ"Rings of Fire" أو حلقات النار، في إشارةٍ إلى الحلقات الخمس بالشعار الأولمبي، أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب سوف يُشكِّل تحدياً إضافياً للرياضيين؛ ما قد يؤثر سلباً على أدائهم، كما تزيد الظروف الأكثر سخونةً من احتمالية الإصابة بالإجهاد الحراري بين المتنافسين والمسؤولين والجمهور.

ويختتم التقرير، الذي شارك في إعداده 11 لاعباً أولمبياً، بسلسلة من التوصيات للسلطات الرياضية لضمان سلامة اللاعبين، ومنها جدولة ذكية للمنافسات لتجنب درجات الحرارة القصوى، والحفاظ على سلامة الرياضيين والمشجعين من خلال خطط أفضل للحماية والتبريد.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

وذلك مع تأكيد أهمية الاستماع إلى أصوات الرياضيين وتمكينهم من التحدث علناً عن تغير المناخ وتداعياته عليهم، وتعزيز التعاون بين الهيئات العالمية والرياضيين في حملات التوعية المناخية، مع إعادة تقييم رعاية شركات الوقود الأحفوري في الأحداث الرياضية.

رفع هذا التقرير وتيرة القلق حول صحة اللاعبين والجمهور أثناء الأولمبياد، وخاصةً أنه أشار إلى موجة الحر القاتلة التي ضربت فرنسا عام 2003، والتي أودت بحياة أكثر من 14 ألفاً؛ فكيف سيكون الوضع الأولمبي في ظل الأزمات المناخية التي تعيشها أوروبا بين الفيضانات وحرائق الغابات والجفاف والحرارة الشديدة؟

تهديد السكان الأصليين في تاهيتي

تاهيتي هي أكبر جزيرة في مجموعة ما وراء البحار التابعة لفرنسا، التي تستقبل منافسات ركوب الأمواج الأولمبية؛ حيث قررت الحكومة الفرنسية بناء برج للحكام من الألومنيوم، بدلاً من البرج الخشبي القديم. ويواجه هذا القرار انتقادات شديدة من السكان المحليين؛ لأنه قد يعرض الشعاب المرجانية للخطر، ويهدد البيئة المحلية التي تعتمد على الصيد وسلامة الحياة البحرية.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

لماذا تاهيتي؟

أكثر ما أثار الجدل من بين جميع قرارات منظِّمي أولمبياد باريس، هو اختيار إقامة مسابقات ركوب الأمواج خارج أوروبا، وتحديداً في مياه المحيط الهادي في تاهيتي، أو كما يطلق عليها البعض "الجانب الآخر من العالم".

تاهيتي هي أكبر جزيرة في مجموعة ما وراء البحار التابعة لحكم قصر الشانزليزيه، وتقع على بُعد 16 ألف كيلومتر من الأراضي الفرنسية. ووفقاً لوكالة أسوشيتد برس، فإن منطقة "تيهوبو" في تاهيتي من أكثر الأماكن شهرةً في العالم لركوب الأمواج، لكن السبب الأهم وراء اختيارها للأولمبياد هو الـ"surfing reef" أو الهيكل المكون عادةً من المرجان أو الصخور تحت الماء، الذي يتسبب في خلق موجات مثالية لركوب الأمواج تُعرَف بقوتها واتساقها، وتجتذب أصحاب الخبرة. ويمتاز هذا الهيكل في "تيهوبو" بأنه بعيد جدًّا عن الشاطئ؛ بحيث لن يتمكن الجمهور من رؤية الحدث بوضوح من الشاطئ.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

لذلك توقع المنظمون أن معظم المشجعين سوف يفضلون مشاهدة المنافسات على شاشات التلفزيون بدلاً من السفر إلى تاهيتي وركوب الرحلات الجوية، التي تعتبر مصدراً رئيسياً لانبعاثات الكربون. ومع تخفيض عدد الجمهور على الشاطئ سوف يقل بالتبعية عدد الحجرات الفندقية واستهلاك الطاقة، وبذلك تنجح أولمبياد باريس في خفض البصمة الكربونية.

وقالت جورجينا جرينون مديرة الملف البيئي لأولمبياد باريس: "لقد قمنا بالفعل بجميع الحسابات الكربونية، وكان التأثير أقل في تاهيتي مقارنةً بالمناطق الحضرية الأخرى".

الحد من الانبعاثات أم الاستدامة؟

تعد "تيهوبو" واحدة من أكثر المحطات شعبيةً في منافسات ركوب الأمواج منذ سنوات، وكان يتم استخدام برج الحكام الخشبي الذي يبلغ عمره 20 عاماً، وتم إنشاؤه بشكل يضمن صحة الشعاب المرجانية.

لكن الألعاب الأولمبية أعطت الضوء الأخضر لبناء برج حديث من الألمنيوم، مكون من ثلاثة طوابق، وتبلغ تكلفته نحو 5 ملايين دولار ليحل محل القديم؛ بهدف بناء برج أكبر لتوفير وسائل الراحة للحكام، بما في ذلك مكيفات الهواء. ويتطلب بناء هذا البرج إنزال كتل خرسانية بالقرب من الشعاب المرجانية، مع مد خطوط تكييف الهواء لهذا الهيكل الدائم.

رد فعل السكان الأصليين

عارض المجتمع المحلي إقامة البرج الجديد؛ لأنه يمثل تهديداً على بيئتهم، ويضر بالشعاب المرجانية التي تُعَد أمراً حيوياً للحفاظ على غذائهم وسبل معيشتهم التي تعتمد على الصيد، كما عبروا عن قلقهم من احتمالية ظهور مرض "سيغواتيرا" أو التسمم بالأسماك الذي يُسبِّب للبشر التهاب المعدة والأمعاء، واضطرابات عصبية وأحياناً بطء القلب أو تسرعه، وانخفاض ضغط الدم أو ارتفاعه.

داء "سيغواتيرا" ظهر في مناطق أخرى في تاهيتي نتيجة البناء حول البيئات البحرية الهشة؛ فعندما تضغط آلات البناء على الشعاب المرجانية، فإن الأخيرة تطرد الطحالب السامة التي تعيش بداخلها، فيأكلها السمك ويصبح ساماً ومريضاً بالسيغواتيرا، فينتقل ذلك إلى الإنسان.

ومن أجل حماية صحة البيئة البحرية والشعاب المرجانية، كوَّن السكان المحليون مع بعض الرياضيين مجموعة من الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي، وحصدت هذه الحملات التي يقودها راكب الأمواج التاهيتي الشهير ماتاهي دروليت، الكثير من الدعم على المنصات.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

رد فعل لجنة الأولمبياد

ورداً على الاحتجاجات، أصدرت باريس بياناً أوضحت فيه أن البرج الخشبي الحالي لا يتوافق مع معايير السلامة، ولا يمكن تعزيزه وتجديده؛ لأن تأثير ذلك سوف يكون أكبر على الشعاب المرجانية، التي نمت بالفعل على الكتل الخرسانية على مر السنين، ومن الأفضل بناء أساسات جديدة في منطقة بها قدر أقل من المرجان.

واتخذت اللجنة الأولمبية قراراً في بداية العام الحالي بالاستمرار في بناء برج الألمنيوم الجديد مع بعض التعديلات، ومنها تصغير حجمه وتقليل وزنه لتقليل الحمل على الأساسات، مع إزالة كابلات الإنترنت والكهرباء البحرية بعد الحدث الأولمبي.

وزعمت اللجنة أيضاً أنه سيتم بناء البرج في منطقة بها عدد أقل من الشعاب المرجانية، وأنه سوف يتم نقل الشعاب المرجانية الموجودة وإعادة زراعتها في مكان آخر للحفاظ عليها، لكن بعض الخبراء والمختصين في هذا المجال صرحوا لموقع Mongabay المهتم بشؤون البيئة بأن إعادة زراعة الشعاب المرجانية هي عملية طويلة ومليئة بالتحديات، وأن إزالة المرجان من المنطقة سيكون له آثار ضارة لسنوات قادمة.

وفي مارس الماضي، أعلن فريق بحثي من جامعة هاواي الأمريكية، أن بناء البرج الأولمبي قد يضر بالنظام البيئي للشعاب المرجانية في تاهيتي، كما يؤثر على المجتمع المحلي الذي يعتمد على هذه الشعاب في معيشته. وذكرت الدراسة أن هذا المشروع يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على مساحة 2500 متر مربع من الشعاب المرجانية (نحو نصف مساحة ملعب كرة قدم)، وقد ينتج عن ذلك خسائر اقتصادية تُقدَّر بنحو عن 1.3 مليون دولار، عن طريق إتلاف موطن الشعاب المرجانية الحية.

أوليمبياد باريسأوليمبياد باريس

ورغم استمرار معارضة الناشطين، أعلن الموقع الرياضي الفرنسي "Francs Jeux" عن إتمام بناء البرج واستعداده لاستقبال الحدث الأولمبي مع نشر صوره، ووصف البرج بأن هيكل الألومنيوم يبدو جميلاً وسلساً وجرى تجميعه بشكل أسرع من المتوقع، وأن تاهيتي تمتلك حالياً برج تحكيم على أحدث طراز للسنوات العشرين القادمة، وسوف يتم تفكيكه وإعادة بنائه كل عام قبل فعاليات ركوب الأمواج السنوية.

وتعليقاً عن حالة البيئة البحرية، أشار الموقع الفرنسي إلى أن أمواج البحر ما زالت مثالية كما كانت، لكن ربما قد تعرض المرجان لأضرار طفيفة بسبب قوارب البناء، وفيما يتعلق بمرض "السيغواتيرا"، قال الموقع إن الأمر ما زال مجهولاً وسوف يستغرق بعض الوقت لمعرفة إذا ما كان المرض قد زاد بشكل كبير في الأسماك التي تعيش في المنطقة!

يعتبر البعض أن اختيار تاهيتي والإصرار على بناء البرج، يعكس في الحقيقة النهج الذي يتبعه منظمو الألعاب في تحقيق هدفهم المتمثل في الحد من الانبعاثات، باعتبارها المحرك وراء أزمة تغير المناخ، لكنهم يغفلون في المقابل أهمية الاستدامة البيئية والحفاظ على الحياة البحرية. ومع الاستمرار في هذا النهج سوف تتلاشى الوعود البيئية التي قدمتها سلطات الأولمبياد 2024؛ لأن الخطة "ليست مثالية" كما تحاول باريس تصديرها للعالم.