في أوقات الحصاد، تفوح مدينة جراس الفرنسية برائحة الورود ومسك الروم والياسمين، حيث يُنظر لها باعتبارها عاصمة صناعة العطور الحديثة، ورغم ضآلة مساهمتها في الصناعة العالمية، إلا أن جودة أزهار جراس، وخاصة الياسمين التي تباع بسعر أعلى من الذهب، تجعل المنطقة ذات أهمية حاسمة في صناعة العطور الراقية.
إلى جانب الكثير من أوروبا الغربية، واجهت مدينة جراس الفرنسية والمنطقة، جفافا شديدا في العام الماضي قضى على مساحات من محاصيل الزهور؛ حيث أكدت كارول بيانكالانا، التي تزرع مسك الروم والورد والياسمين، أن حصاد مسك الروم كان أقل بنسبة 40٪ عن عام 2021.
شهد المزارعون في جميع أنحاء المنطقة انخفاضا في حصاد الأزهار بنسبة تصل إلى النصف، وفقاً لعمدة مدينة جراس، جيروم فيود، وفقا لتقرير نشرته "بلومبرج".
ويتزايد الحديث عن سوق العطور العالمية مع أرقام ضخمة لتجارتها يقدر ارتفاعها من 38 مليار دولار في 2013 إلى 52.4 مليار دولار بحلول 2025.
وبالعودة إلى "كارول" فقد نمت تلك السيدة في إحدى المزارع بقرية قريبة من جراس منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حتى باتت تزرع الياسمين والورد ومسك الروم حصريًا لإحدى الماركات العالمية، لكنها تعاني الآن من جفاف شديد الصعوبة على مدى فترة طويلة.
وخلال فصل الصيف، وفي ظل التغيرات المناخية، فرضت السلطات الفرنسية قيودا على استهلاك المياه في البلدة، وإلزام المزارعين بالري ليلاً بمياه أقل، لكن في المقابل طالب المزارعون الحكومة بالإعلان عن كارثة طبيعية، والتي من شأنها أن تمنح أولئك الذين يواجهون ظروفا على المحك آلاف اليوروهات كتعويض.
الجفاف وتغير المواسم والظواهر المتطرفة للصقيع والأمطار والبرد ودرجات الحرارة المرتفعة لتغير غلة المحاصيل وحتى كمية الرائحة التي تنتجها النباتات المختلفة
وبات من المؤكد أن تغير المناخ يهدد مستقبل العطور، ولأن تلك الصناعة تقدر بمليارات الدولارات يتزايد الحديث عن إمكانات البدائل الاصطناعية، التي يسهل الحصول عليها والتحكم فيها عبر براءات الاختراع، وفي النهاية يعني ذلك أن تأثيرات الاحترار العالمي لا تجعل قضية الروائح الطبيعية أكثر إقناعًا.
ويؤدي الجفاف وتغير المواسم والظواهر المتطرفة المتكررة للصقيع والأمطار والبرد ودرجات الحرارة المرتفعة إلى تغيير غلة المحاصيل وجودة المكونات وحتى كمية الرائحة التي تنتجها النباتات المختلفة، ومع استمرار هذه التأثيرات، قد يحتاج الأمر إلى إعادة التفكير في كل شيء يتعلق بكيفية صنع روائح معينة.
ما الحل؟
بالنسبة لدور العطور العالمية فإن محاولة الاتساق مع الواقع أمر حتمي، ولعل هذا هو السبب في أن صانعي العطور، الذين يعتبرون بعض «الأنوف» الأكثر انسجامًا في العالم، خاصون جدًا في تحديد مصادر المكونات. على سبيل المثال يمكن لمرتدي ماركة محددة أن يشعروا بأن رائحتهم تشبه رائحة مارلين مونرو التي قالت إنها تضعها أثناء النوم.
ومثلما يحدث في فرنسا فإن الأمر يمتد إلى عدد من دول العالم؛ حيث تجبر الأحداث المناخية المفاجئة والدرامية الآن المزارعين على التكيف بسرعة، مثل الري بالتنقيط للاستجابة لقيود المياه في السنوات الأخيرة، وقد أدخلت حشرات مفترسة جديدة لمكافحة النظام البيئي المتغير للآفات، لكن من الصعب مواكبة المواسم التي لا يمكن التنبؤ بها بشكل متزايد.
بيوت العطور الكبيرة تتطلع للتكنولوجيا الحيوية لتربية أنواع نباتية أكثر مقاومة للمناخ عبر المزارع العمودية وإنتاج أصناف جديدة
وتتطلع بيوت العطور الكبيرة أيضًا إلى التكنولوجيا الحيوية لتربية أنواع نباتية أكثر مقاومة للمناخ، عبر المزارع العمودية، حيث يمكن للبيئات الاصطناعية الخاضعة للرقابة أن تساعد في الحفاظ على أصناف معينة أو إنتاج أصناف جديدة.
لكن هناك مجموعات تقليدية من منتجي العطور تشكك في إمكانية توافق التجارب المعملية مع العالم الطبيعي، فالزهور هي سادة صناعة العطور - الياسمين أو الورد - يمتلكان فقط ذلك المصنع الكيميائي الصغير الذي يمزجها بشكل صحيح تمامًا.. ببساطة لن تنبعث رائحة نفس الرائحة البديلة للنبات.
ومع ذلك، فإن الضرر الذي يلحقه تغير المناخ بالروائح الطبيعية - من الكمية إلى الجودة - يتطلب اتخاذ إجراءات، والاعتراف بأهمية المكونات الطبيعية - للعطور والوظائف والاقتصادات المحلية - ووضع المال والتدابير لدعم ذلك.