السياحة المفرطة والبيئة.. لماذا علينا الابتعاد عن بعض المدن الساحرة؟


مروة بدوي
السبت 03 يونية 2023 | 06:46 مساءً

في السفر سبع فوائد.. هكذا تعلَّمنا أنَّ تخطي الحدود الجغرافية والتجوُّل بين البلاد يُعملِّنا الكثير، ولكن ماذا عن الأضرار؟ كل وجهة سياحية تمثل عامل جذب للسياح حول العالم باتت أكثر عرضةً لتبعات التغير المناخي؛ نتيجةً للاستهلاك المتزايد.

البندقية؛ المدينة العائمة الأشهر بالعالم، اختفت منها المياه، وتحوَّلت قنواتها العتيقة إلى طرق يكسوها الوحل، وتوقفت رحلات الجندول بين مبانيها التاريخية، وتعطلت مظاهر الحياة الطبيعية بها خلال الشهور الماضية.

وفي فصل الصيف الماضي، تعرَّضت إيطاليا لأسوأ موجة جفاف منذ 70 عاماً؛ بسبب قلة الأمطار، والنقص الحاد في المياه، وخاصةً في الشمال، مع نقص تساقط الثلوج على جبال الألب، وأعلنت حينها الحكومة حالة الطوارئ في البلاد.

يبدو أن تداعيات التغير المناخي – وفي مقدمتها الجفاف والاحترار – بدأت تُغير وجه إيطاليا المعروف؛ حيث تُعتبَر من الدول الغنية بالماء. ووفقاً لخبير المناخ ماسيميليانو باسكوي من المعهد الإيطالي للبحوث العلمية، فإن "البلاد في وضع عجز مائي يتراكم منذ شتاء 2020–2021، ونحتاج إلى 50 يوماً من الأمطار المستمرة لتحسين الوضع بعض الشيء".

أهم أسباب ارتفاع درجة حرارة الأرض؛ الأنشطة البشرية التي تؤدي إلى زيادة عملية التبخر، ومن ثم حدوث الجفاف في العديد من الأماكن العالمية

من المسؤول.. البشر أم الطبيعة؟

أوضح باسكوي، في حوار صحفي مع صحيفة "كورييري ديلا سيرا"، أن هناك أسباباً عالميةً ومحليةً وراء موجات الجفاف التي تضرب إيطاليا، ويأتي في مقدمتها التغيرات المناخية الكارثية في العالم، وارتفاع درجات الحرارة في منطقة البحر المتوسط.

وردّاً عن سؤال: من المسؤول عما ما يحدث؟ البشر أم الطبيعة؟ قال باسكوي: "كلاهما؛ تأثير البشر في ظاهرة الاحتباس الحراري واضح جدّاً، ولكنَّ هناك أيضاً دور للطبيعة"، وأضاف: "علينا تعلُّم التعايش مع الجفاف؛ لأنه من المحتمل أن يتكرر هذا الوضع في المستقبل".

هنا ينتهي كلام الخبير الإيطالي، لكنه يؤكد واحداً من أهم أسباب ارتفاع درجة حرارة الأرض؛ الأنشطة البشرية التي تؤدي إلى زيادة عملية التبخر، ومن ثم حدوث الجفاف في العديد من الأماكن العالمية، ومنها البندقية. وعند الحديث عن شح المياه بالمدينة العائمة، لا يقف الأمر عند الطليان فقط؛ بل كل سكان الكوكب يتحملون المسؤولية بشكل غير مباشر بسبب "overtourism".

السياحة المفرطة

اكتظاظ السياح الناتج عن توجه عدد كبير من الأفراد إلى أماكن معروفة؛ ما يسبب أضراراً تؤثر على حياة السكان المحليين.. هذه الظاهرة تعرفها منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة "UNWTO"، بأنها بصمة السياحة على وجهة معينة، وهي البصمة التي تؤثر بوضوح على جودة حياة المواطنين أو نوعية تجارب الزائرين بطريقة سلبية، وغالباً ما يعاني كلٌّ من الطرفين من التدهور في آن واحد.

تُعَد السياحة مصدراً مهمّاً للاقتصاد، لكنها عندما تتحول إلى "مفرطة"، يصبح الأمر مشكلة متفاقمة تؤرق الجميع، وتُلقي بظلالها على كل المجالات؛ المجتمعية، والثقافية، والبيئية.

الآثار السلبية لقطاع السياحة على البيئة

الآثار البيئية السلبية للسياحة متعددة، وعلى أكثر من صعيد، وسوف تتفاقم المشكلة مع حلول عام 2030؛ لأن من المتوقع وصول عدد السياح في العالم إلى 1.8 مليار شخص، وفقاً لمؤشر The World Counts.

ومن ضمن هذه الأضرار، استنزاف الموارد الطبيعية، وفقدان الموائل، وتعميق أزمة الكائنات المهددة بالانقراض، بجانب مشاكل التلوث والنفايات، والاستهلاك المفرط في استخدام المياه والطاقة، والضغط على استخدام الأراضي المحلية، الذي يؤدي إلى تآكل التربة. ويمكن لهذه الآثار أن تدمر تدريجيّاً الموارد البيئية التي تعتمد عليها السياحة نفسها.

قد تتسبب السياحة المفرطة في تسريع وتيرة التغيرات المناخية؛ ما يُفقِد مدن الأحلام، ذات الشهرة الواسعة سياحيّاً، الكثيرَ من مميزاتها الطبيعية

السياحة وتغير المناخ

تساهم السياحة بأكثر من 5% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، ويمثل النقل 90% منها. وبحلول عام 2030، من المتوقع زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من السياحة بنسبة 25٪ مقارنةً بعام 2016، بحسب مؤشر The World Counts.

كل هذه المخاطر البيئية ونحن نتحدث عن الأعداد العادية للسائحين، فكيف سيكون الوضع مع الازدحام السياحي؟! إذ من المتوقع أن تتضاعف الأضرار، وقد تتسبب السياحة المفرطة في تسريع وتيرة التغيرات المناخية؛ ما يُفقِد مدن الأحلام، ذات الشهرة الواسعة سياحيّاً، الكثيرَ من مميزاتها الطبيعية، ومن هذه المقاصد:

مع موجات الحر والجفاف التي تضرب منطقة البحر المتوسط، سوف ترتفع درجات الحرارة؛ ما يتطلب استهلاكاً أعلى للطاقة من أجل التبريد والتكييف، ومن ثم زيادة التلوث البيئي الناتج عن إنتاج واستهلاك الطاقة في سانتوريني

سانتوريني – اليونان

سانتوريني من أجمل الجزر في العالم، وتُعَد من أشهر جزر اليونان السياحية؛ حيث بدأت السياحة بوتيرة مستدامة، ومع ذلك خرجت الأمور عن السيطرة، وباتت تعاني من الازدحام السياحي حتى مع تقليص أعداد زوار الرحلات البحرية إلى 8000 شخص يوميّاً عام 2017، بعد أن وصل إلى 18000، وحتى الآن ما زالت الجزيرة تحاول مواجهة السياحة المفرطة وأضرارها.

تتعرض البيئة الإيكولوجية للجزيرة للتهديد مع الارتفاع الملحوظ في أعداد الفنادق السياحية؛ فقدت الجزيرة 11٪ من مساحتها الطبيعية بسبب البناء والإنشاءات، كما ارتفع استهلاك المياه بنسبة 46٪ ، بحسب تقرير لشبكة "CNN".

ومع موجات الحر والجفاف التي تضرب منطقة البحر المتوسط، سوف ترتفع درجات الحرارة؛ ما يتطلب استهلاكاً أعلى للطاقة من أجل التبريد والتكييف، ومن ثم زيادة التلوث البيئي الناتج عن إنتاج واستهلاك الطاقة.

بالي – إندونيسيا

بالي هي المقاطعة الأكثر شعبيةً في إندونيسيا؛ حيث تمتزج الطبيعة بالحداثة، ويعيش العالمان في هدوء وسلام. يمكنك التمتع بحقول الأرز المتدرجة في الصباح، ثم قضاء وقت في مراكز الترفيه العصرية ليلاً. وقد أدى هذا التنوع إلى ازدحام سياحي متزايد؛ فعلى سبيل المثال تستقبل جزر نوسا في بالي، ما بين 1000 و1500 زائر يوميّاً.

تعاني بالي من أعباء السياحة المفرطة مع امتلاء شواطئها بالقمامة والتلوث البلاستيكي، بينما أعلنت الحكومة الإندونيسية عام 2017 حالة طوارئ لجمع القمامة بعد أن صُنِّفت إندونيسيا ثاني أكبر ملوث للبلاستيك في العالم.

جزر غالاباغوس – الإكوادور

تقع جزر غالاباغوس البركانية على ساحل الإكوادور، وتعد واحدة من الموائل الطبيعية الأكثر شهرةً في العالم، وتمتاز بثروة من النباتات والحيوانات الفريدة التي لا توجد في أي مكان آخر في العالم.

ووفقاً للصندوق العالمي للحياة البرية، تهدد السياحة غير المستدامة هذا النظام الإيكولوجي، بعد أن تحولت جزر غالاباغوس إلى واحدة من أكثر الوجهات السياحية شهرةً، لكن زيادة الضغط البشري على الأرخبيل الهش، يمثل خطراً محتملاً على البيئة وعلى الحيوانات النادرة وهجرتها الموسمية؛ بسبب التلوث والنفايات البلاستيكية والمخلفات البحرية التي تقتل عدداً غير معروف من الحيوانات كل عام.

هاواي – الولايات المتحدة الأمريكية

أجمل ولاية أمريكية، وتشتهر بشواطئها الخلابة على المحيط الهادي، وجوها الرائع، لكن كشفت أبحاث حديثة، نشرتها منظمة "إيرث" البيئية، علاقة قوية بين السياحة المفرطة وتدهور الشعاب المرجانية في هاواي.

تجذب المناطق ذات التغطية المرجانية الكبيرة الكثير من الزوار، لكنها تخنق الشعاب المرجانية؛ بسبب ارتفاع درجات الحرارة في القاع؛ ما يمثل مصدر قلق خطير على الشعاب المرجانية.

تدعم الشعاب المرجانية ما يقرب من 25٪ من جميع الكائنات البحرية التي تعيش داخل محيطات الأرض.

وتحافظ على نظام بيئي متنوع في المحيطات؛ ولذلك فإن أي تدهور في الشعاب المرجانية يهدد جميع مظاهر الحياة البحرية

البندقية – إيطاليا

أصبحت السياحة على نطاق واسع غير مستدامة لمدينة قديمة وفريدة من نوعها معماريّاً مثل البندقية، والنتائج – كما ذكرنا سابقاً – قد تُغيِّر شكل المدينة الشهيرة، بالإضافة إلى انخفاض عدد سكان المدينة بسبب هجرة المواطنين بعيداً عن الازدحام.

الحلول المقترحة

السياحة المفرطة تمثل أحد أسباب الضغط البيئي على هذه المدن، وتساعد في تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري، واستهلاك الموارد والتلوث، ومن ثم تسريع وتيرة التغيرات المناخية؛ لذلك يتحمل كل سائح واعٍ المسؤولية عن تخفيف الحمل عن الكوكب عبر عدة طرق.

أول خطوة للشروع في حل الأزمة هو أن يُسائِل السياح أنفسُهم: "هل تعتبر نفسك من السياح الـ repeaters، أي الذين يقصدون الوجهة نفسها أكثر من مرة؟".

إذا كنت قد سافرت إلى مكان يعاني من الازدحام السياحي من قبل، وتعلَّقت به وبات جزءاً من رحلتك السنوية، فعليك أن تتوقف عن زيارته لفترة؛ حتى تعطي غيرك فرصة في الاستمتاع، وتقلل من أعداد السياح والأضرار الناجمة عن السياحة المفرطة.

أما إذا كانت هذه زيارتك الأولى لمقصد يعاني من السياحة المفرطة، فعليك أن تخطط رحلتك جيداً، وتراعي بعض الممارسات التي حدَّدتها منظمة السياحة العالمية:

تجنب مواسم الذروة السياحية: إذا كنت تزور إيطاليا مثلاً فابتعد عن ازدحام الصيف، واختبر هدوء الربيع؛ لأن ذلك يقلل عدد السياح، ويجعلك تعيش تجربة ممتعة أكثر.

ابحث عن وجهات أو بدائل أقل شهرةً داخل البلد التي تقصدها: وفقاً لمنظمة السياحة، فإن القدرة الاستيعابية السياحية لوجهة ما، هي الحد الأقصى لعدد الأشخاص الذين يزورونها في وقت واحد، دون التسبب في تدمير البيئة الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومن ثم فإن الازدحام السياحي هو تخطي الحد الأقصى؛ ما يضع الموارد والبنية التحتية للمدينة تحت ضغط كبير، يقلل من جودة تجربتك الشخصية بصفتك سائحاً، وهي التجربة التي تساعدك في اكتشاف الكنوز المدفونة.

على سبيل المثال، عند السفر إلى اليونان، تجنب زيارة سانتوريني الذائعة الصيت، وابحث عن بديل مثل جزر إيكاريا وليروس؛ حيث الحلم اليوناني، لكن بهدوء وبعيداً عن الضرر.

ويأتي اعتماد تطبيقات الواقع الافتراضي لبعض المعالم السياحية الشهيرة لاستكمال الزيارات الميدانية بعيداً عن الازدحام.. يأتي هذا الأمر أيضاً باعتباره حلّاً مؤقتاً، إضافةً إلى استخدام وسائل النقل العام، وركوب الدراجات ومسارات المشي لتقليل التلوث والانبعاثات.

ويجب خلال رحلتك مراعاة الحفاظ على الموائل الطبيعية، وجودة التراث الثقافي، والمعالم السياحية مع ترشيد الاستهلاك في المياه والكهرباء.

وأخيراً، ثقِّف نفسك حول هذه المشكلة قبل السفر؛ حتى تكون جزءاً من العلاج، وتساهم في تخفيف الأضرار البيئية وربما منعها، وحتى تكون تطبيقاً للسلوك السياحي الواعي الذي يحترم البيئة وسبل الاستدامة؛ حيث ترتبط التغيرات المناخية والسياحة المفرطة ارتباطاً وثيقاً، وفقاً لمستشار السياحة المستدامة ومؤلف كتاب Transforming Travel جيريمي سميث.