على مدار 80 عاماً، ظل مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، ينقل إلى العالم صورة البندقية؛ المدينة العائمة الشهيرة بممراتها المائية الساحرة، لكن في السنوات الأخيرة بات يذكرنا بوجه آخر لمدينة العشاق، المهددة بإدراجها ضمن مواقع التراث العالمي الأكثر عرضة للخطر بسبب أزمة المناخ، وحالة الفوضى المناخية التي تعيشها إيطاليا من فيضانات وعواصف إلى موجات جفاف واحترار قياسية.
فينسيا
منذ عام 2021، اتخذ المهرجان قراراً بالاستدامة البيئية، وبرنامج الحياد الكربوني عبر اتجاهين: خفض انبعاثات الكربون إلى أقصى حد عن طريق اعتماد الطاقة المتجددة وتشجيع إعادة التدوير وإعادة استخدام مواد ومعدات المهرجان، وزيادة عدد الخيارات النباتية في قائمة الأطعمة.
والاتجاه الثاني التعويض عما لا يمكن التخلص منه من الانبعاثات المتبقية، من خلال شراء أرصدة الكربون المعتمدة من مشاريع الطاقة المتجددة في الهند وكولومبيا.
النسخة الـ81 من مهرجان البندقية
في مساء يوم 28 أغسطس الماضي، انطلقت نسخة هذا العام من المهرجان، مع الإعلان عن الملصق الرسمي: "فيل يسافر في دروب الخيال"، صورة تشبه الحكايات القديمة والأساطير، مستوحاة من قصة وصول فيل إلى مدينة فينيسيا عام 1981، وتجوله في شوارع البندقية الضيقة خلال الكرنفال السنوي الشهير. الآن يعود هذا الفيل ليعبر البحيرة ويسافر في مسارات الغموض والسحر التي تكشفها لنا السينما.
مهرجان فينسيا
يذكرنا هذا الفيل الملون بكل ما هو بعيد وقادم من الحضارات والثقافات الأخرى، فيل تمتطيه بطلة مُلصقات المهرجان السابقة، ويتجه نحو الشرق لكنه يرحب بالجميع.
هكذا ظهر الفيل في ملصق فينسيا المبهج، الذي يرسم علاقة تربط بين الإنسان والأفيال والمغامرة واكتشاف العوالم الجديدة، لكن من باب المفارقة المؤلمة والمفجعة. تزامناً مع الاحتفاء بالمهرجان وملصقه، أعلنت دولة ناميبيا عن خطة لذبح 83 فيلاً، بسبب موجة الجفاف الحادة التي تعاني منها البلاد، والهدف هو توفير الغذاء للبشر، وتخفيف الضغط على الموارد الطبيعية والمراعي.
الأفيال والجفاف
ترى ناميبيا في قتل الفيلة مخرجاً لأزمتها الإنسانية، التي يقف وراءها التغير المناخي، بينما المسؤول عن كل ذلك بالدرجة الأولى هم البشر!
بارقة أمل في ختام المهرجان
ربما يكون الإنسان هو المتهم الرئيسي في قضية البيئة والمناخ، لكنه أيضاً هو من يملك الحل لتقليل الانبعاثات وحماية التنوع البيولوجي وحفظ توازن النظم البيئية. ونقطة البداية هي الاعتراف بالأزمة وتحويلها إلى قضية رأي عام، وهنا يأتي دور المبدعين وصناع السينما وإدارة المهرجانات العالمية.
ورغم قتامة "المشهد البيئي" وإنكار البعض قضية المناخ، يمكن رؤية بقعة ضوء أو بارقة أمل أثناء حفل ختام أقدم وأعرق مهرجان سينمائي في العالم؛ حيث فاز بأكبر جائزتين في المسابقة الرسمية فيلمان يسلطان الضوء على مسألة تغير المناخ والاستدامة البيئية، بشكل لافت خلال السياق الدرامي للأحداث.
مهرجان فينسيا
فيلم The Room Next Door
جائزة المهرجان الرئيسية؛ الأسد الذهبي "Leone d’Oro"، التي تُمنح لأفضل فيلم يعرض في المسابقة الرسمية، ذهبت إلى فيلم "الغرفة المجاورة"، أول فيلم ناطق بالإنجليزية للمخرج الإسباني المعروف بيدرو ألمودوفار، ومن بطولة صاحبتي الأوسكار؛ تيلدا سوينتون وجوليان مور.
يركز الفيلم على مسائل الحياة والموت والصداقة، عبر قصة صديقتين مقربتين تلتقيان بعد سنوات من الفراق؛ حيث تعاني إحداهما من مشكلة صحية خطيرة وتقترب من الموت، وفي أحد الأيام يصل صديق ثالث، هو كاتب يهتم بتغير المناخ وتدهور البيئة.
مهرجان فينسيا
يدور نقاش بين أبطال الفيلم حول الموت. كانت الصديقتان تتحدثان عن موت الإنسان. أما الضيف الجديد والصديق القديم فكان يتحدث عن الموت بمعناه الأوسع "موت الكوكب" بسبب التغير المناخي.
تبدو هذه المقارنة غريبة للوهلة الأولى، لكن في الحقيقة هي قضية واحدة؛ وجود البشر مرتبط بشكل وثيق بوجود كوكب الأرض، وعندما يستغل الإنسان الطبيعة أسوأ استغلال، يجعلها تمرض بالاحتباس الحراري وتلوث الهواء، وحين يتسبب في قتل أبنائها من الكائنات الحية، يجعلها تذبل وتشيخ، وفي النهاية تموت، وحينها لن يجد الإنسان مأوى أو ملجأ، وسوف ينتهي به الأمر إلى المصير الحتمي نفسه: الموت، أو هو كما يقول المخرج "فيلم عن امرأة تحتضر وسط عالم يحتضر أيضاً".
وفي حديثه خلال المؤتمر الصحفي الخاص بالفيلم، طالب المخرج الإسباني ألمودوفار باتخاذ إجراءات أوسع بشأن تغير المناخ، قائلاً: "يتعين علينا أن نولي اهتماماً أكبر لإصلاح الأزمة البيئية، ويجب أن نتحلى بالشجاعة ونتوقف عن إنكار مخاطر تغير المناخ؛ فهو أمر لا يمكن إهماله".
مهرجان فينسيا
وأشاد النقاد بالفيلم الذي حصد تصفيقاً حاراً من الجمهور لمدة 18 دقيقة بعد عرضه لأول مرة في المهرجان، وهي واحدة من أطول فترات التصفيق في السنوات الاخيرة، ووصف البعض الفيلم بأنه تحية من المخرج ألمودوفار لحياة الإنسان والطبيعة من خلال الحديث عن الموت.
مهرجان فينسيا
فيلم Vermiglio
الفيلم الثاني هو "فيرميليو" الذي حصد جائزة الأسد الفضي، وهو دراما عائلية هادئة تدور أحداثها في جبال الألب الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية.
يرصد الفيلم حياة عائلة ريفية كبيرة تعيش في قرية فيرميليو الجبلية، وتتأثر بشدة بالأحداث المحلية والعالمية، ومن خلال هذه القصص الإنسانية ترصد كاميرا الفيلم المشاهد الطبيعية الوعرة والمناظر الثلجية المبهرة والغابات داخل جبال الألب الشاهقة.
مهرجان فينسيا
"فيرميليو" هو عالم ريفي يعيش وفق إيقاع الطبيعة وتوالي فصول السنة الأربعة، ويعيد قيم المجتمع البسيط، ويؤكد الاستدامة.
المكان هو بطل هذه القصة؛ فجبال الألب موجودة دائماً في خلفية كل لقطة إلى درجة أنها باتت أحد الأبطال؛ الجبال تُذكر الإنسان بمدى حجمه الحقيقي مقارنة بضخامة الطبيعة، ويجب عليه الحفاظ عليها واحترامها، وصونها من أجل الأجيال القادمة.
مهرجان فينسيا
ولذلك فاز الفيلم أيضا بجائزة" القطرة الخضراء"، وهي جائزة شرفية لمهرجان البندقية السينمائي، تأسست عام 2012؛ حيث تختار لجنة التحكيم من بين الأفلام المتنافسة في المسابقة الرسمية، الفيلم الذي قدم قيم البيئة والتنمية المستدامة بشكل أفضل، مع إيلاء اهتمام خاص للحفاظ على الكوكب وأنظمته البيئية، وأنماط الحياة الصحية.
وقد ذكرت شركة إنتاج الفيلم، أن التصوير تم على مدار أربعة مواسم؛ للحفاظ على دورة الحياة وفصول المكان الموسمية كما أرادها المخرج، وأكدت التزام فريق العمل ببروتوكولات التنقل البيئي لحماية المكان من التعرض للأنشطة البشرية الضارة.
مهرجان فينسيا
خطوة مهرجان فينيسيا، بعدما خرجت من معاناة مدينة الممرات الساحرة من جراء تغير المناخ، ربما تسلط الضوء على الأزمة البيئية العالمية، التي يتجاهلها أغلب صناع الفن السابع، فهل نشهد المزيد من الخطوات الشبيهة؟