تاريخ سري كان مخفياً لآلاف السنين في باطن الأرض، كشفه ذوبان الجليد وتآكل التربة الصقيعية التي تغطي نحو 10% من كتلة اليابسة على الكوكب، بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة العالمية.
الاكتشافات الأثرية تلك أظهرت مجالاً جديداً للدراسة، يعرف بـ"علم الآثار الجليدية"، الذي يركز على اكتشاف المومياوات والآثار التاريخية التي يعود عمر بعضها إلى آلاف السنين، وتم الحفاظ عليها وسط الجليد، وتستعرض "جرين بالعربي" في السطور القادمة قائمة بأشهرها.
مومياء الإنكا
في أكتوبر الماضي كُشِف عن وجه "خوانيتا"، بعد إعادة بنائه بتقنية ثلاثية الأبعاد، وعرضه في متحف محميات جبال الأنديز في بيرو.
"خوانيتا" هي فتاة مراهقة تم التضحية بها قبل 500 عام في جبال الأنديز، واكتشاف بقاياها المجمدة والمحفوظة جيداً بشكل لا يصدق في عام 1995، وتعود قصتها إلى حضارة الإنكا إحدى أهم الحضارات التي قامت في أمريكا الجنوبية، وكانت من أبرز طقوسها ما يعرف بـ"الكاباكوشا"، وهي تقديم تضحيات بشرية في الأماكن المقدسة؛ من أجل حماية المجتمع من الكوارث الطبيعية، كالزلازل والجفاف.
وكان يتم اختيار الأطفال والشابات للتضحية بهم، ومنهم "خوانيتا" التي سقطت المومياء الخاصة بها من أعلى جبل الأنديز بسبب ذوبان الجليد؛ لذلك تلقب أحياناً بعذراء الجليد، التي أزاحت النقاب عن موقع دفن الإنكا وأسرار ثقافتهم التي امتدت لقرون طويلة.
علم الآثار الجليدية هو مجال جديد للدراسة يركز على اكتشاف المومياوات والآثار التاريخية التي يعود عمر بعضها إلى آلاف السنين، وتم الحفاظ عليها وسط الجليد
رجل الثلج
خلال صيف عام 1991، انكسرت طبقة الجليد فعلياً بسبب ارتفاع الحرارة، وظهرت جثة مدفونة في منطقة أوتزتال الواقعة في جبال الألب، على الحدود بين النمسا وإيطاليا.
كانت الجثة لرجل قصير القامة في منتصف العقد الرابع من عمره، يرتدي قبعة من جلد الدب، وعدة طبقات من الملابس المصنوعة من جلود الماعز والغزلان، وحذاءً بنعل من جلد الدب محشواً بالعشب لإبقاء قدميه دافئتين، ويحمل معدات لحمايته، مثل قوس طويل وجعبة من السهام، وفأس نحاسي، ونباتات علاجية.
في البداية، ظن الجميع أنه أحد متسلقي الجبال وتوفي منذ فترة، لكن أظهرت الأشعة السينية أنه رجل قُتل منذ نحو 5300 عام، وبات يلقب بـ"أوتزي" أو رجل الثلج إحدى أشهر المومياوات بالعالم المحفوظة طبيعياً بشكل ممتاز، وصاحب أقدم قضية قتل ارتُكِبت على الثلج في تاريخ البشرية ولم يتم حلها حتى الآن، ولكن الجانب المشرق هو كشف مومياء رجل الثلج عن بعض تفاصيل وظروف الحياة والأدوات المستخدمة منذ آلاف السنين.
حرب "طروادة" الجليدية
العالم القطبي مليء بالمواقع المحفوظة بأعجوبة بفضل الثلوج، ويُعَد اكتشافها بمنزلة نافذة على الحياة في عصور ما قبل التاريخ بشكل لا مثيل له. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، قادت أعمال التنقيب في ألاسكا إلى اكتشاف آثار سلسلة من المعارك الطويلة والمذابح التي يحكي عنها السكان الأصليون منذ قرون.
مع تآكل الأنهار الجليدية، ظهرت نحو 100 ألف قطعة أثرية محفوظة جيداً، بالإضافة إلى عظام متناثرة لنساء وأطفال وشيوخ قُتِلوا خلال هذه الحرب التي استخدم أطرافها الخدعة فيما يشبه أسطورة حرب طروادة. الموقع في ألاسكا بات مسرح جريمة قتل معقدة، ومثالاً أثرياً نادراً ومفصلاً لحرب السكان الأصليين منذ مئات السنين.
إذا كان ذوبان الجليد هو السبب الأساسي وراء تحرير هذه القطع الأثرية المهمة من التربة الصقيعية، فإن التغير المناخي سوف يعرض هذه الاكتشافات للخطر والتلف، بعد أن ظلت محمية في مناخ بارد ورطب لآلاف السنين.
اكتشافات أخرى
ذوبان التربة الصقيعية في شمال شرق سيبيريا كشف أيضاً عن مومياوات أسد الكهوف، أو سلالة الأسود التي عاشت في العصر الجليدي، بجانب ماموث صغير محنط عمره 39 ألف سنة.
وداخل جبال الألب الأوروبية، أو في الدول الاسكندنافية مثل النرويج، تم اكتشاف العديد من الأسلحة والأدوات والملابس التي تخبر الباحثين بالعديد من أسرار الماضي.
منذ بداية برنامج علم آثار الأنهار الجليدية، الذي تموله النرويج منذ عام 2011، كانت الاكتشافات بشكل رئيسي تعود إلى العصور الوسطى، من 500 إلى 1500 عام مضت، ولكن مع تسارع الذوبان، تنكشف فترات أقدم من التاريخ، قد تعود إلى العصر الحجري في بعض الأماكن، مع قطع عمرها 6 آلاف عام.
وحتى الآن، استعاد برنامج علم آثار الأنهار الجليدية نحو 3500 قطعة أثرية، العديد منها محفوظ بحالة استثنائية من الدقة، وتمتلك النرويج أكثر من نصف اكتشافات الجليد على مستوى العالم.
ولم يقف الأمر عند الآثار والتاريخ، بل استعاد الباحثون كل شيء، مثل الأشجار المتجمدة التي توثق التغيرات المهمة في المناخ والغطاء النباتي في العصور السابقة.
مخاوف حول مستقبل هذه الاكتشافات
رغم أن ذوبان الجليد هو السبب الأساسي وراء تحرير هذه القطع الأثرية المهمة من التربة الصقيعية، فإن التغير المناخي والظروف الجوية القاسية سوف تعرض هذه الاكتشافات للخطر والتلف، بعد أن ظلت محمية في مناخ بارد ورطب لآلاف السنين.
وبمجرد ظهور هذه المواد العضوية الناعمة، يكون أمام الباحثين وقت قصير لإنقاذها والحفاظ عليها، قبل أن تتحلل وتضيع إلى الأبد، حسب تصريح البروفيسور جريج لي عالم الآثار في معهد أبحاث القطب الشمالي وجبال الألب، لصحيفة "New York Times".
وأضاف "جريج لي" أن إنقاذ هذه القطع لا يتعلق بحماية ثقافة الشمال فقط، بل بحماية تراث البشرية كلها. واختفاء هذه المواد التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، يمثل خسارة لا تقدر بثمن؛ لذلك لا يقف الأمر على مجرد اكتشافها نتيجة ذوبان الجليد، بل يجب صونها من الظروف الجوية القاسية كجزء من تاريخ الأرض.