لماذا يخشى خبراء الطب الشرعي التغير المناخي؟


سلمى عرفة
الاربعاء 02 اغسطس 2023 | 10:34 مساءً

 في صيف عام 1959، وتحديداً يوم 11 يونيو من العام نفسه، عثرت الشرطة الكندية على جثمان فتاة لم تتجاوز الثانية عشرة من العمر، بعد يومين من اختفائها في إحدى الغابات، واكتشفت مقتلها خنقاً بعد اغتصابها.

أصابع الاتهام تشير إلى زميلها في المدرسة ستيفن تراسكوت، الذي يكبرها بعامين، خصوصاً أنه شُوهِد يُقِلُّها بدراجته إلى أحد مفترقات الطرق قبل أن تختفيَ عن الأنظار.

تحقيقات السلطات الكندية انتهت بإدانة "تراسكوت" بالجريمة المروعة، وحُكم عليه بالإعدام، قبل أن تُخفَّف العقوبة إلى السجن مدى الحياة، ثم يُفرَج عنه إفراجاً مشروطاً في 1969، لكنَّ عار اتهامه بالاعتداء جنسياً على زميلة الطفولة وقتلها بَقِي يلاحقه، رغم عيشه بين الناس باسم مختلف.

قرابة نصف قرن سعى فيها "تراسكوت" إلى إلغاء حكم الإدانة، حتى تحقَّق الأمر في 2007 بعد ظهور أدلة جديدة، منها مجموعة من الحشرات المزعجة.

اثنتان من علماء علم الحشرات الجنائي أثبتتا خطأ العاملين في الطب الشرعي في تحديد موعد الوفاة الذي اعتمد آنذاك على فحص مَعِدة الضحية، لتكتشفا أن المجنيَّ عليها رحلت عن الحياة بعد الوقت المحدد سلفاً بفارق كبير، وفقاً لموقع ABC News.

ملفات القضية ضمَّت العديد من الصور لمسرح الجريمة، علاوةً على وصفٍ للحشرات التي تجمَّعت حول جثمان المجنيِّ عليها بمجرد ما لفظت أنفاسها الأخيرة. ومن خلال مقاس اليرقات التي وضعتها تلك الحشرات، وحساب الوقت الذي تحتاجه لتنمو إلى هذه الدرجة، جرى التأكد مجدداً من موعد الوفاة.

ماذا عن العرب؟

الاهتمام بعلم الحشرات الجنائي في العالم العربي تزايد في السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، بدأت شرطة دبي قبل سنوات تتعاون مع فريق بحثي يقوده أستاذ العلوم البيولوجية في جامعة فلوريدا الدولية جيفري ويلز، لإعداد قاعدة بيانات للحشرات التي يمكن الاستعانة بها في التحقيقات، وبالفعل نجحت الإمارة في حل عدد كبير من الجرائم التي شهدتها.

لكن يبدو أن التغيرات المناخية لن تُفلِت تلك الكائنات التي ساعدت لسنوات طويلة المحققين على كشف ألغاز أنواع مختلفة من الجرائم، أبرزها جرائم القتل.

ارتفاع درجة حرارة الأرض الناتج عن الاحتباس الحراري، يؤدي إلى تغيير خريطة توزيع الحشرات، ومنها الذباب المنفوخ، وهو من أشهر الأنواع التي يستعين بها خبراء الأدلة الجنائية، وقد بدأ يُغيِّر أماكن وجوده بحثاً عن أجواء أكثر برودةً، وفقاً لموقع Popular Science.

ذبابة

التغيرات في أماكن تلك الأنواع قد تُربِك حسابات العاملين بالمجال الذين قد يُفَاجؤون بأنواع جديدة لا تسير أنشطتها على الوتيرة التي اعتادوها.

قبل سنوات، رصد باحثو جامعة إنديانا الأمريكية ظهور ذبابة "Lucilia cuprina" في ولاية إنديانا للمرة الأولى بعيداً عن موطنها الأصلي في الولايات الجنوبية. ورغم التشابه الكبير بينها وبين ذبابة Lucilia sericata، فإن كلاً منهما يسير وفق جدول مختلف إذا ما عثروا على جثمان قتيل.

ذبابة

ارتفاع درجة حرارة الأرض الناتج عن الاحتباس الحراري يؤدي إلى تغيير خريطة توزيع الحشرات ومنها الذباب المنفوخ أحد أشهر الأنواع التي يستعين بها خبراء الأدلة الجنائية

اليرقات التي تُنتِجها الوافدة الجديدة لا تنمو بالسرعة التي تكبر بها يرقات شبيهتها، ومن ثم، لا بد للمختصين من الإلمام بأي تطورات؛ كي لا يحدث خطأ في تحديد موعد وقوع الجريمة عند تشابه الأنواع.

تقول الباحثة كريستين بيكارد، في تصريحات سابقة، إن الخطأ في التمييز بين الذبابتين، قد يؤدي إلى المبالغة في تقدير موعد الوفاة بفارق 25%، وفقاً لموقع WFYI Indiana.

الحرارة تتحكم

في إحدى أوراقها، تقول الأستاذة المساعدة في قسم العلوم البيولوجية بجامعة جامعة أولد دومينون والمتخصصة في علم الحشرات الجنائي الدكتورة ديبورا والر؛ إنه غالباً ما يكون الذباب المنفوخ ضمن الأنواع التي تصل أولاً إلى الجثمان، لتبدأ في وضع بيضها، وتخرج اليرقات التي ستمر بثلاث مراحل، لكن الوقت الذي تقضيه في كل مرحلة يتوقف على درجة الحرارة؛ لذلك ضمَّنت معرفة العوامل البيئية في المنطقة ضمن الإجراءات التي لا بد للعاملين من معرفتها عند البدء في مُعايَنة مسرح الجريمة.

مسرح الجريمة

وعن تأثير التغيرات المناخية، رأت "والر" في حديثها إلى "جرين بالعربي"، أن الحرارة تؤثر على غالبية الجوانب الحيوية للحشرات، مثل التوزيع الجغرافي، واختيار موائلها الدقيقة، ومعدلات النمو والتغذية، وتوقيت التكاثر ووضع البيض.

وفقاً لرأيها، ستتأثَّر كافة أنواع الحشرات بالحرارة، لكن التغيرات التي ستنال الأنواع الأكثر أهميةً في حل الجرائم – وهي ذباب الجيف وخنافس الجيف – سيكون لها الأثر الأكبر على التخصص.

تُضيف "والر" أن المراحل التي تمرُّ بها الحشرات عند الوصول إلى جثة ما ستسير بوتيرة أسرع بفعل الحرارة، وستستغرق فترات أقصر؛ فإذا سار الأمر في اتجاه واحد، وبقيت الحرارة مرتفعة باستمرار، يمكن إعادة حساب الفترة التي تحتاجها كل مرحلة، لكن ماذا لو لم تَسِر الأمور على هذا النحو؟

تُجِيب المُحاضِرة الأمريكية بأن تقلُّب الأجواء بفعل الموجات الحارة سيتطلب إجراء المزيد من الأبحاث للتنبؤ بمدة كل مرحلة تحت ظروف مختلفة.

مرتكبو الجرائم قد يبتسم لهم الحظ كذلك إذا ما وقعت كارثة طبيعية في منطقة ارتكاب الجريمة؛ إذ ترى "والر" أن الفيضانات وحرائق الغابات يمكنها قتل أو إبعاد الحشرات الآكلة للجيف، كما يمكنها محو أي أثر لأنشطتها، لكن أحياناً ما يُعثَر على داخل جثمان القتيل الذي غمرته المياه على يرقات الذباب التي تغذَّت عليه قبل وصول المياه إليه.

كما تطرقت إلى طرق الاحتفاظ بالأدلة الجنائية، مؤكدةً انتشار طرق التخزين الرقمي التي ترى ضرورة استخدامها بجانب الحفظ التقليدي.

كافة أنواع الحشرات ستتأثر بالحرارة لكن التغيرات التي ستنال الأنواع الأكثر أهميةً في حل الجرائم – وهي ذباب الجيف وخنافس الجيف – سيكون لها الأثر الأكبر على التخصص

وقبل أكثر من عقد كامل، وقعت سلطات ولاية نيويورك الأمريكية في مأزق بعدما نالت الفيضانات التي خلَّفها إعصار ساندي اثنين من المخازن التي تضم أدلة جنائية تخص جرائم تُباشِرها السلطات، وشملت أسلحة وأدلة حمض نووي وسيارات.

موقع ABC 30 الإخباري نقل آنذاك غياب الإجراءات الاحترازية لحماية تلك الأدلة داخل المخازن لتتلوث بالمياه التي وصلت إليها.

أما عن مستقبل علم الحشرات الجنائي، فترى "والر" أن هناك عدداً هائلاً من الأسئلة لا بد من الإجابة عليها، وعدداً كبيراً من الأبحاث لا بد من إجرائها لمواكبة المناخ المتغير الذي لا يمكن التنبُّؤ به، لكنها أكدت أن "المختصين في علم الحشرات الجنائي يُحِبُّون التحدي".